Friday, June 11, 2010

تاريخ الكنيسة مع العلم


أ- الكنيسة و العلم
تناولت في الموضوع السابق مبررات ظهور العلمانية و مناسبتها للعالم الغربي
المسيحي و بقي مبرر واحد هام و هو علاقة الكنيسة بالعلم.

إن تاريخ الكنيسة مع العلم و الفكر و الحرية تاريخ محفوف، فقد وقفت الكنيسة مع
الجهل ضد العلم و مع الخرافة ضد الفكر و مع الاستبداد ضد الحرية و مع
الإقطاعيين ضد الشعب، حتى ثارت الجماهير عليها و تحرروا من الحكم المباشر
لرجالها و اعتبروا عزل الدين عن الدولة كسبا للشعب ضد جلاديها.

إن تاريخ الكنيسة في ذهن الإنسان الغربي المسيحي ما هو إلا رديف للاضطهاد
و القتل و محاكم التفتيش الشهيرة و المذابح بين الطوائف المتنازعة، و عوده
السلطة للكنيسة تمثل عودة هذه المفاهيم...لذلك فلا عجب أن ينفر الغربي منها
و يقف في سبيل حكمها و تسلطها. يقول الأستاذ أمري ريفر مؤلف كتاب
"تحليل السلام" :( إن القتل الواسع النطاق و التعذيب و الاضطهاد و الضغوط
التي شهدناها في منتصف القرن العشرين تعتبر أدلة واضحة و قاطعة على إفلاس
الكنيسة الكامل كوسيلة لترويض الانفعالات الإنسانية الغريزية و لتحويل الإنسان
من حيوان إلى مخلوق اجتماعي معقول.)

و يردف أمري ويفر قائلا: (و لقد ارتكبت فضاعات مجردة من كل مظهر إنساني
و قتل الناس بدم بارد على يد مسيحيين انحدروا من أسر مسيحية انتسبت منذ قرون
لهذا الدين بكل تياراته الكاثوليكية الرومانية و البروتستانتية الشرقية. و ارتكب
الألمان و الأسبان و الطليان و البولنديين و الفرنسيين و الصرب و الكروات و
الروس مجازر و فضاعات أغمضت كل المسيحية أعينها عنها. إن وقوع هذه
الفظائع لدليل قاطع على فشل الكنيسة و عدم كفاية وسائلها لتكييف الأخلاق و
التأثير عليها و ترويض غرائزه. إنه من العبث نكران عجز الكنيسة عن التسرب
لنفس البشر و التأثير على سلوكها، و إن ألفي عام من تاريخ الكنيسة لزمن كاف
للحكم على جدوى هذه الطريقة بصرف النظر عن مذهبها التي تطبق به..)

هذا نموذج للمطاعن التي وجهت للمسيحية و هي غنية عن التعليق. فهل كان
الإسلام كذلك؟ و هل يمكن أن يؤاخذ بمثل ذلك؟ إن التاريخ ووقائعه تنفي ذلك
عن الإسلام. و مع هذا فقد تأثر الإسلام من الهجوم على الكنيسة لأسباب منها
أن الغربيين نظروا للإسلام بعين الكنيسة و ظنوا أنه دين مثل المسيحية فكالوا
تهم المسيحية و ألبسوها للإسلام و السبب الثاني أن تلامذتهم من المسلمين
المستغربين أصبحوا يعتقدون هذا بدورهم و ينظرون إليه بنفس المنظار،
متناسين أن الأفكار التي بنيت عليها أيديولوجية الحكم على الإسلام هي
في الأساس تستند على الحكم على المسيحية و ليس على الإسلام.

ب- الإسلام و العلم
أما بالنسبة للإسلام، فالدين يحترم العلم و يوقره و يرفعه، فعلمنا دين
و ديننا علم، و نتبنى العلمية في كل أمورنا. و لم يعرف تراثنا على
الإطلاق صراعا بين العلم و الدين على عكس النصرانية و التي
دارت رحى الحرب فيها بين العلم و الدين قرونا كان من آثارها محاكم
التفتيش التي يندى لها الجبين. لقد كرم الإسلام العلم، فكانت أول أية
تتنزل على النبي هي (اقرأ) و في القران يقسم الله بالقلم (ن، و القلم
و ما يسطرون). إن المنهجية العلمية في الإسلام تتجلى لمن قرأ القران
فإن الله يحاجج الناس بالعقول فيقول لهم أفلا تتفكرن ، قل هاتوا برهانكم
إن كنتم صادقين، قل سيروا في الأرض.....الخ.

إن الاتجاه العلم في الإسلام واضح جلي، يشهد به كل منصف. يقول
الكاتب الماركسي مكسيم رودنسون في حديثة عن العقيدة الإسلامية:( القران
الكتاب المقدس تحتل فيه العقلانية مكانا جد كبير. فالله لا ينفك فيه يناقش
و يقيم البراهين العقلانية على القدرة الإلهية، ففي خلق السماوات و الأرض
و اختلاف الليل و النهار و توالد الحيوان و دوران الكواكب و الأفلاك...الخ
تنوع رائع مع حاجات البشر.)

و يردف الكاتب مكسيم قائلا: ( إن فعل "عقل" بمعنى ربط الأفكار و تحكيم البرهان
العقلي تكرر في القران عشرات المرات و يتكرر السؤال كثيرا " أفلا تعقلون؟" أما
الكفار الذين يرفضون الاستماع لدعوة محمد يوصفون بأنهم "قوم
لا يعقلون" لأنهم قاصرون عن أي جهد عقلي يهز تقاليدهم الموروثة و هم بهذا
كالجمادات و الأنعام). و يستمر الكاتب مكسيم يبين عقلانية الإسلام و مقارنا
هذه العقلانية بما جاء في العهدين القديم و الجديد للمسيحيين و اليهود حتى يقول: "في
مقابلة هذا ، تبدو العقلانية القرآنية صلبة كأنها الصخر."

و يقول رينيه ميليه: لقد تفرع مبدأ التأمل و البحث يتفرع من الدين عند المسلمين
و قد مالوا إلى العلوم و برعوا فيها و وضعوا أسس علم الكيمياء ووجد منهم كبار
الأطباء....كما يقول المؤرخ الفيلسوف الاجتماعي الشهير جوستاف لوبون: إن
العرب هم الذين علموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.

و العلمية التي دعا الإسلام لها ليست السعي وراء طلب العلم فقط و إنما إن
يسود التفكير العلمي و الروح العلمية كل علاقاتنا و شئون حياتنا بحيث ننظر
للأشخاص و القضايا نظره علمية سواء في السياسة و الاقتصاد و التعليم بعيدا
عن الارتجالية و الذاتية و الانفعالية و العاطفية و الغوغائية التي تسود مناخنا اليوم.
كل هذه المبررات تتماشى مع العالم الغربي و كانت تربة خصبة لظهور العلمانية
فيه، و هي ( أي العلمانية) حل لمشكلات العالم المسيحي، لكننا نرى أن مبررات
ظهورها هناك لا تتناسق مع تاريخنا و ثقافتنا وواقع حالنا، فهي علاج للعالم
المسيحي و داء لنا.

أبو أنس

No comments:

Post a Comment